إسرائيل والخيار التاريخي | ||
بات تراكم الأحداث باتجاه واحد في السنوات الأخيرة يدل على تغير كيفي في حال القضية الفلسطينية إقليمياً. ولم يعد بوسع المحلل والمراقب المسيس تجاهل التشابه بين السياق "العربي "الإسرائيلي"" الحالي وحال الدول الصليبية في عصرها في المنطقة العربية. فقد رفضت "إسرائيل" السلام العادل مع الشعوب العربية والشعب الفلسطيني، ونقصد ذاك الممكن والمتمثل بالعيش المشترك في "دولة واحدة" ديمقراطية لجميع مواطنيها العرب واليهود، بحيث تشكل جزءاً من المنطقة العربية، أو ذاك الحل الآخر الممكن والمتمثل بتسوية في "حل الدولتين" مع ضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وقد اختارت "إسرائيل" نموذجاً ثالثاً حتى بعد "أن تبنى العرب حلولاً ومبادرات سلمية طرحت رسمياً" عليها. هي اختارت نموذج الدولة الصليبية. ولا تتناقض التسويات والمعاهدات وحتى التعاون الأمني في علاقاتها الحالية مع أنظمة عربية مع هذا النموذج. فالدول الصليبية الأربع لم تعش بالفروسية والحصون وحدها، وما كان بإمكانها ذلك أصلاً. لقد نجحت الدولة الصليبية طيلة 190 عاماً، بواسطة الجمع بين الحصون والقلاع والتسويات والمعاهدات مع أمراء وسلاطين ومماليك، وفي الرهان على خلافاتهم في تحالفات مع بعضهم ضد بعضهم الآخر. ولكن هذه التسويات لم تتحول إلى سلام ولم تقبل شعوب المنطقة بالدولة الصليبية. فاستمرت هذه نبتة غريبة ثقافياً وحضارياً وسياسياً. وفي النهاية أصبح امتحان الزعامة العربية الإسلامية في تقديم نماذج لمحاربتها وهزيمتها. لقد انتهت الدولة الصليبية رغم جمعها بين التسويات وحملات القتل والإبادة، (وللتذكير، انتهت حتى في غياب شعب فلسطيني). وليست هنالك حاجة للتذكير أن تعبير "الصليبية" نفسه هو تعبير أوروبي متأخر (وليس عربياً أو إسلامياً)، يعود إلى مؤرخي القرن السابع عشر في فرنسا. أما العرب فقد اسموهم الإفرنج أو الفرنجة. والتعبير لا يعني المسيحية (بالتأكيد ليس الشرقية، ولا حتى الغربية) ولا يتطابق معها. وقد أعد هذا المقال بحلقاته الثلاث للتفكير في الخيارات التي رفضتها "إسرائيل" وبالخيار الذي انتهت اليه، خيار الدولة الصليبية. ونقصد بها الدولة الاستيطانية الغريبة عن محيطها التي قامت بالعدوان، وتعيش بالسيف والتسويات والهدنات المؤقتة وباستغلال الخلافات في محيطها، ولكنها لا تكتسب شرعية في محيطها عبر الزمن. عموماً، لم تُطرَح قضيةٌ كولونيالية، قضية شعب تحت الاحتلال إلا كقضية تحرر من الاحتلال وإزالة الاستعمار. ولكن في فلسطين طرحت التصورات للتسوية حتى اليوم كمشاريع حلول لمعضلة أو قضية شائكة هي قضية فلسطين. وفي التعامل مع الحالة الاستعمارية في فلسطين كأنها قضية شائكة أو معضلة، وفي التعامل مع "قضية فلسطين" كأنها معضلة، يكمن تخصيص يهدف إلى تمييزها عن بقية قضايا التحرر الوطني، وذلك بخلطها مع النزاعات الحدودية والتمايز الديني والحضاري والمسألة اليهودية. هذا التعقيد المصطنع هو الذي أقصى فلسطين عن عملية إزالة الاستعمار. ولكنه يتحول أيضاً إلى المانع أمام "حل دائم"، وهذا التعقيد الذي يستخدم لمنع الحلول يقود في النهاية إلى التمسك عربياً برفض شرعية "إسرائيل" وإلى نموذج الصراع المستديم. انطلقت ثقافة مرحلة النضال ضد الاستعمار من أنه من واجب الشعوب الواقعة تحت الاحتلال أن تقاوم الاحتلال، ويبقى على الدولة الاستعمارية أن تستنتج من مقاومة الاحتلال ما تستنتج من حلول لقضية عدم تمكنها من السيطرة، وعدم تمكنها من تحمل تكلفة الاحتلال. ولم يكن التفكير بتحرير فلسطين كبلد عربي ممكناً إلا في سياق معادلة: استعمار مقابل حركة قومية عربية. فُهِمَ التحرير كمهمة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية التي افترض أن تقاوم احتلالاً أجنبياً لجزء من الوطن العربي. لم تكن المعركة من هذا المنظور منفصلة عن الشعوب العربية. بل كانت جزءاً من القضايا العربية، وكانت رمزياً هي القضية العربية لأنها كثفت في ذاتها بقية القضايا القومية، مثل التجزئة والتبعية، والهيمنة الخارجية، وقطع التواصل العربي، وشرعية الأنظمة. ومارس العرب (أو لم يمارسوا حين لم يمارسوا) تضامناً مع الفلسطينيين على المستوى الإنساني. أما على المستوى السياسي فلم يكن الحديث ممكناً عن تضامن، إذ إن المعركة واحدة. ليست المعركة ضد الصهيونية و"إسرائيل" قضية الفلسطينيين وحدهم بحيث يتضامن معهم العرب سياسياً. فهي إما قضية العرب، أو هي "نزاع فلسطيني- "إسرائيلي". لا توجد قضية فلسطينية خارج السياق العربي. ولن يلبث أن يتحول ما يسمى "النزاع الفلسطيني- "الإسرائيلي"" إلى صراع حدودي بين كيانين يخضع لموازين القوى بينهما في غياب العرب. بعد عام 1967، أي بعد الهزيمة التي مني بها التيار القومي وهو على سدة الحكم في دول عربية مواجهة، وصلت إلى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية فئات سياسية اجتماعية اتجهت عبر تشديدها على الكيانية الوطنية نحو التحول إلى نظام عربي، أو إلى أحد الأنظمة العربية. ومع الردة التي حصلت بعد الحرب على مستوى الأنظمة خاصة في مصر، التقت هذه الرغبة خلال فترة قصيرة مع رغبة جزء من النظام العربي الرسمي. فمثلاً النظام المصري الذي ولدت مرحلته القومية صيغة منظمة التحرير اتجه نحو قطع الصلة مع العرب في ما يتعلق بالصراع مع "إسرائيل"، وقرر أن يذهب في طريقه التسووي الذي حتمته سياسته في حينه. فقد كان السلام المنفرد مع "إسرائيل" جزءاً من رزمة تضمنت تغيير بنية الاقتصاد، وشملت أيضاً خيار التحالف مع الولايات المتحدة إقليمياً. وفي حالة مصر يبدأ قطع الصلة السياسية مع العرب بفك الارتباط مع قضية فلسطين. ما بدأ كموقف وطني على شكل دعمٍ مصريٍ لمنظمة التحرير "ممثلاً شرعياً ووحيداً" ضد الأردن في قرارات قمة الرباط، ثم تحول إلى دعم "استقلالية القرار الفلسطيني" ضد سوريا، كان في الواقع موافقاً للسياسة الجديدة بقطع صلة مصر مع "الصراع العربي- "الإسرائيلي"" ولينتهي إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية الفلسطينيين. وكما قلنا يستخدم بعض العرب مؤخراً حتى مقولة اسوأ: "الصراع" أو "النزاع الفلسطيني- "الإسرائيلي"". ونجد مثالاً متأخراً لهذا السلوك الفلسطيني في إصرار ياسر عرفات رحمه الله على فصل الوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن عن الأردني؟ فماذا كانت النتيجة؟ سلام أردني- "إسرائيلي" ناجز ومنفصل، وعملية سلام مرتبكة متخبطة لا يحكمها مبدأ بين "إسرائيل" وقيادة منظمة التحرير، ما زالت مستمرة بعد عقد ونصف العقد على السلام الأردني- "الإسرائيلي". هذه خلفية اعتبار النظام الرسمي العربي محاصرة الفلسطينيين، والقصف "الإسرائيلي" الوحشي على مجتمع مسجون في غزة، قضية الفلسطينيين. وقد انقسم النظام العربي بين متضامن معهم ولائم لهم يحملهم المسؤولية لأنهم يعرضون أنفسهم لغضب "إسرائيل". ووصلت الحاجة إلى تأسيس وترويج موقف غير شعبي كهذا شعبياً درجة تأليب المشاعر الوطنية المصرية ليس مع فلسطين وضد "إسرائيل"، كما هي في سجيتها، بل ضد "غزوة فلسطينية". ترك القضية للفلسطينيين هو نتاج لقاء بين نوعين من المواقف والتصورات:أولاً، مصالح أنظمة عربية أخرجت نفسها ودولها من تعريف العرب كذات سياسية فاعلة ذات أمن قومي ومصالح ومواقف مشتركة من جهة. ثانياً، مع نضال قيادة حركة التحرر الفلسطيني لكي تصبح نظاماً عربياً هي أيضاً من جهة أخرى. ترحب الدول العربية بالسلطة الفلسطينية تحت عنوان "م ت ف" كنظام عربي لأنه يلبي حاجة الأنظمة بأن تترك "القضية" للسلطة والمنظمة تحت عناوين شتى من نوع "وحدانية التمثيل" و"استقلالية القرار" وغيرها. تتحول فلسطين من قضية بلد عربي محتل، إلى نزاع فلسطيني "إسرائيلي" على حدود دولة فلسطينية افتراضية، ومن "القضية الفلسطينية"، إلى قضية الفلسطينيين، ثم إلى قضية الفلسطينيين القاطنين في الضفة وغزة من دون غيرهم، ومن حلقة ضرورية من حلقات التحرر والوحدة العربية إلى مسألة كيان سياسي آخر، ومن صراع مع الصهيونية وما تمثله في هذه المنطقة إلى نزاع حدودي. وتتحول المقاومة من التحرر إلى البحث عن حلول لمعضلة. ويتحول البحث عن حل إلى تفاوض بين محتل وواقع تحت الاحتلال، قبل أن يقتنع المحتل بموضوع التفاوض الوحيد الممكن في مثل هذه الحالة وهو: كيفية إزالة الاحتلال. ويتحول التفاوض إلى "عملية سياسية جارية" تفصلُ فيها "حلول" و"مخارج" بموجب موازين القوى السائدة في ظل ابتزاز تتعرض له النخبة السياسية للشعب الواقع تحت الاحتلال لدفع ثمن بقائها قيادة مقبولة على الساحة الدولية و"المجتمع الدولي". في ظل هذا النموذج نشأ التعويل العربي على مستوى الخطاب السياسي والإعلامي على مصطلحات مثل "الشرعية الدولية" و"المجتمع الدولي". وهي عوالم افتراضية بديلة لعالم حقيقي تم التخلي عنه وهو معركة التحرر العربي والفلسطيني ضد "إسرائيل" والصهيونية والمجتمع العربي. المجتمع الدولي هو مجتمع افتراضي. وهو تعبير يُعَدّ خصيصاً ويُفصّل للغة المناشدة. ولا يعني في الممارسة الفعلية شيئاً سوى موازين القوى القائمة لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية. خيار الدولتين كحل ناجم عن تفاوض، أو يفترض أن تتوصل إليه المفاوضات، هو نتاج هذا السياق، سياق البحث عن "حلول لمعضلة". ولكن سخرية التاريخ أن نفس السياق الذي أوصل النظام الرسمي العربي ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى التنازل والاقتناع بفكرة "حل الدولتين" الذي يعرض ممارسة حق العودة للخطر بحكم تعريفه، هو نفس سياق القبول العربي بموازين القوى حَكَماً، والرهان الحصري على الاستراتيجية الأمريكية. وهذا ما مكن "إسرائيل" من تفريغ الحل من مضمونه برفضها الانسحاب من القدس المحتلة، ورفض الانسحاب إلى حدود عام 1967، والإصرار على الاحتفاظ بكتل استيطانية في الضفة الغربية. و"حل الدولتين" الذي أفرغته "إسرائيل" من المضمون هو الحل الوحيد الذي يمكن أن ينتج عن مفاوضات في هذه الظروف، فلا يبدو أن "حل" الدولة الواحدة يمكن ان ينتج برضا "الطرفين" أو يتمخض عن مفاوضات بينهما في هذه المرحلة. رفض "حل الدولتين" هو رفض لحل كان يمكن أن يشكل أساساً لتعايش في المنطقة العربية، مع أنه لا يجسد عدلاً، ولكنه يتضمن الحد الأدنى من الإجماع العربي إذا تضمن استعادة القدس وعودة "إسرائيل" إلى حدود عام 1967 واعترافاً بحق العودة. ولكن "إسرائيل" رفضت هذا الخيار، كما أسلفنا، رفضت خيار الدولتين بشكله ومركباته التي كان يمكن أن تقبل عربياً، وسياساتها تجعله غير ممكن التحقيق في المستقبل. فما هو الخيار الآخر؟ على هذا السؤال نجيب في الحلقة القادمة. (2-3) الدولة الواحدة الديمقراطية لقد تم تقزيم التفاوض على "حل الدولتين" وتفريغه من أي مضمون. إذ فقدت حركة التحرر الوطني الفلسطيني مصادر قوة حركة التحرر، بما فيها التعويل على المجتمع العربي بدل "المجتمع الدولي". فقدتها، وتخلت عنها من دون أن تصبح دولة، وقبل أن تضمن السيادة. وأصبح كيان السلطة الذي أقامته مرتبطاً كلياً بالتفاوض وبحسن النية الأمريكي- "الإسرائيلي"، وبمواقف الرأي العام "الإسرائيلي" وغير ذلك. وتحوَّل التفاوض على الدولة الفلسطينية إلى عملية ابتزاز، يتم فيها تقديم تنازلات ومقايضتها بقضايا متعلقة بالحقوق الثابتة. ومن خيار اعتبار التفاوض بديلاً عن المقاومة، وليس نتيجة لها، تنشأ قيادة فلسطينية جديدة. وهي قيادة محتواة في العملية السياسية التفاوضية إلى درجة ارتباطها وجودياً بهذه العملية. و"إسرائيل" تعرف ذلك، كما نعرفه. وهي تستبدل التفاوض السياسي الجوهري بمكرمات ومبادرات حسن نية "إسرائيلية" تحتاجها هذه القيادة في مقابل محاصرة ومحاربة واغتيال القوى الفلسطينية التي تتبنى خيار المقاومة وترفض التخلي عنه. هكذا يصبح ما كان مفروغاً منه تحت الاحتلال ذاته مثل الكهرباء والماء وحرية التنقل والعمل والغذاء والدواء موضوعاً للتفاوض والمساومة... ويغدو إنجازاً في وجه القوى التي "تستفز" أو "تغضب "إسرائيل"" بنهجها و"تعرض نفسها ومجتمعها لحصار" بعدم تخليها عن خيار المقاومة، فهذا الخيار يمنع عنها هذه "الإنجازات" العظيمة (التي كانت قائمة في ظل الاحتلال). في مرحلة التحرر الوطني، كان الطرف الفلسطيني الذي يطرح نفسه كوسيط مع الاحتلال، لأن الاحتلال يوفر بواسطته تصاريح السفر والعمل والكهرباء والوقود وغيرها، كان يُعتبَرُ عميلاً، وكانت هذه الاستراتجية تعتبر محاولة لخلق قيادة بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي اعتبرت قيادة وطنية لأنها لا تقبل بالخدمات في ظل الاحتلال حلاً، وتصر على التخلص من الاحتلال ذاته. في مرحلة التفاوض على الدولة أصبحت هذه أدوات "إسرائيلية" فلسطينية للتمييز بين قيادة معتدلة تستحق أن تدعم بواسطة هذه الخدمات، وقيادات أخرى متطرفة يجب أن تدفع الثمن شعبياً بالضغط على المجتمع الفلسطيني ليتخلى عنها لأنها تتمسك بخيار المقاومة. ولكن، في الوقت الذي يجري فيه تفريغ برنامج الدولة الفلسطينية كجزء من "حل الدولتين" من أي مضمون، يبدو أن التيار الفلسطيني المقاوم، الذي يتشكل بغالبيته حالياً من قوى تتبنى أيديولوجية دينية، متمثلة بحركتي حماس والجهاد، لا يميل إلى طرح ديمقراطي بديل يتضمن خياراً ل"الإسرائيليين" مثل "حل الدولة الواحدة". لم يطرح خيار الدولة الواحدة لكافة المواطنين العرب واليهود بشكل فعلي وحقيقي في تاريخ الصراع. فقد نظر العرب بحق إلى الصهيونية كحركة استعمارية وإلى الصهاينة من غير المقيمين أصلاً في فلسطين كمستعمِرين يحركهم هدفُ إقامةِ دولةٍ في بلد يقيم فيه شعب آخر. لم يكن وعد بلفور سراً، وقد كانت مشاريع الصهيونية بإقامة دولة يهودية في فلسطين معروفة معلنة تخفى على الجهلة فقط. ولأن الصهيونية كانت، ولاتزال، تعني في الممارسة العمل على جلب عدد غير محدود من "القادمين" المستوطنين إلى فلسطين، فلم تكن حدود المواطنة واضحة المعالم. والمواطنة المتساوية هي أساس وجوهر فكرة العيش في دولة واحدة من دون هيمنة صهيونية. وهي أيضاً الرسالة العربية المطلوب أن تقدم شيئاً للمجتمع اليهودي لإبعاده عن فكرة الدولة اليهودية، وأقصد شرعنة الوجود في فلسطين بواسطة المواطنة. هذه رسالة عيش مشترك، وهي نقيضة للإبادة أو الطرد أو "رمي اليهود في البحر" (التي تتغنى بها وتخترعها إلى حد بعيد الدعاية الصهيونية في حين رمت "إسرائيل" الفلسطينيين في البحر والصحراء). ولكن بدا أن كل تحديد يقوم به العرب لتاريخ لا يعتبر بعده المهاجرون مقيمين شرعيين من أجل توضيح حدود المواطنة هو تحديد غير واقعي ومثير للسخرية والتسخيف. ومن الناحية الأخرى، وهي الأهم، أصرت الحركة الصهيونية على إطار الدولة اليهودية في فلسطين كحل للمسألة اليهودية. هذا هو مبرر وجود الصهيونية التاريخي بنظر ذاتها. وقد كانت الدولة اليهودية موضوع وعنوان الصراع الذي خاضته حتى داخل المجتمعات اليهودية في الشتات، ناهيك عن الدول العظمى، وتحصيل وعد بلفور، وناهيك عن مشروع الاستيطان نفسه. وهو مشروع قام على أنقاض عرب فلسطين، ولم يهدف إلى الحياة مع العرب في كيان سياسي واحد. هذا صحيح من الناحية التاريخية، ما عدا في استثناء قصير واحد هو طرح "هشومير هتشعير" فكرة الدولة الثنائية القومية في الثلاثينات، ولكن هذا الطرح جاء في خضم نشاطها الاستيطاني في تناقض مع السكان الأصليين. من السخف الاعتقاد أن الصهيونية، وأي تيار من تياراتها، و"إسرائيل" أو أي مركب من مركباتها الحزبية السياسية، أو حتى الاجتماعية الرئيسية، يمكن أن تقبل الآن ب"الدولة الواحدة" الديمقراطية كإطار لحل. ليس هذا النموذج حلاً تفاوضياً في إطار موازين القوى الحالية بالمعنى الذي يفهم في أيامنا هذه من كلمة "حل". وعندما طرح لفترة قصيرة من قبل حركة فتح مثلاً في السبعينات اعتبر "إسرائيلياً" على أنه رديف لعبارة "إزالة "إسرائيل"". كما طرحت فكرة الدولة الواحدة من قبل "م ت ف" كبرنامج "الدولة الديمقراطية العلمانية" بحيث تضمن المساواة الكاملة بالحقوق بين سكان البلاد: مسلمين ومسيحيين ويهود. أي أنها تعاملت مع الديانات تحييداً، وذلك من دون أن تعيِّن طابعاً قومياً للدولة. ولكن لم تطرح أدوات تحول الفكرة إلى برنامج سياسي بعمل يهودي عربي مشترك مثلاً، بل من خلال تحرير فلسطين كبلد عربي. وعلى كل حال لم تدم الفكرة طويلاً في التداول. وقد اختلف هذه البرنامج الديمقراطي عن فكرة الدولة الثنائية القومية. وهي فكرة تطرح حالياً من قبل مثقفين عرب ويهود. وقد طرحت بداية من قبل يسار الحركة الصهيونية "هشومير هتسعير" في ثلاثينات القرن الماضي ولفترة قصيرة فقط. وتتضمن الفكرة الثنائية القومية اعترافاً بوجود جماعتين قوميتين في فلسطين، تشكل كل منهما كياناً داخل دولة واحدة. وتلبي بالتالي فكرة الوطن القومي، أو الوطن لكل قومية من القوميتين في نفس الدولة، في إطار دولة واحدة تعترف بقوميتين. طبعاً اسقطت "هشومير هتسعير" هذا الطرح سريعاً ولم تتابعه. فقد رُفِض فلسطينياً وصهيونياً... وبقيت شذرات منه تطرح قبل النكبة من قبل أساتذة في الجامعة العبرية ومثقفين يهود بارزين ولكن معدودين في إطار حركة "بريت شالوم". يسلم نموذج "الثنائية القومية" بوجود قوميتين، واحدة أصيلة وأخرى متشكلة، ولكنها في الحالتين أقرب إلى واقع فلسطين من جنوب إفريقيا. ففي جنوب إفريقيا الجديدة التي يعاد بناؤها بعد انهيار النظام العنصري، جرى تجاهل فكرة القوميات (التي اعتبرت غير متشكلة كفكرة سياسية) لمصلحة فكرة تعدد الثقافات واللغات والديانات والإثنيات في إطار أمة المواطنة الواحدة. أي أن عملية بناء الأمة الجنوب إفريقية الواحدة (خلافاً للأمة الفرنسية مثلاً) لا تتجاهل الإثنيات والقبائل واللغات والجماعات والثقافات. في جنوب إفريقيا، إذاً ليس المطروح نموذجاً متعدد القوميات، بل متعدد اللغات والثقافات والإثنيات. ومع أن "الحل الثنائي القومية" أقرب إلى واقع فلسطين لأنه يتعامل مع قوميات متشكلة فعلاً، خلافاً لنماذج أخرى مهاجرة (الولايات المتحدة، أستراليا، نيوزيلندا) تبنى فيها الأمة على أساس المواطنة وحدها من دون ذكر القومية، فإنه ليس أكثر واقعية من الناحية السياسية في موازين القوى الحالية في فلسطين. إضافة إلى ذلك ففي جنوب إفريقيا تبنت حركة التحرر الوطني متمثلة بالمؤتمر الوطني الإفريقي هذا الخيار، خيار التحرر عبر المواطنة المتساوية في إطار الدولة متعددة الثقافات. ولكن حركة التحرر الوطني الفلسطيني تاريخياً اتجهت نحو فكرة الدولة الوطنية منذ منتصف السبعينات. وهكذا وُجِّهَت الانتفاضة الأولى والثانية في الضفة الغربية وقطاع غزة باتجاه انفصالي وليس توحيدياً مع بقية فلسطين. ولا توجد قوى فلسطينية سياسية حزبية جدية تتبناه، أو تطرح استراتيجية نضاليه سعياً إليه، ناهيك عن أنه ليس خياراً تفاوضياً مع "إسرائيل"، في حين تتبنى النخبة السياسية الفلسطينية طريق التفاوض حصرياً. وقد انقسمت الخارطة السياسة الفلسطينية والقوى المنظمة الفاعلة فلسطينياً بين قوى تدفع جميعاً باتجاه الدولة، الدولة الوطنية فلسطينية، وتختلف على أمور أخرى. وحقيقة تبني هذا الخيار مؤخراً من قبل مثقفين فلسطينيين ديمقراطيين لا يغير من جديته وجدية مناقشته، بل يؤكد ضرورة ذلك. ونحن نعتقد أنه لا توجد عوائق كبرى أيديولوجية أو بنيوية فلسطينية ضد مثل هذا الحل، كما أن مصلحة الشعب الفلسطيني بطرح برنامج ديمقراطي يضمن حق العودة ولا يفرط بالحقوق ويعطي إجابة للمواطن اليهودي تجد لها إجابة معقولة لها في تبني مثل هذا الحل. وإذا تم تبنيه فلسطينياً فلن يكون هنالك عائق عربي جدي. المشكلة أن "إسرائيل" لم تقبل بهذا الموقف أبداً. ولم تنشأ قوى "إسرائيلية" تطرحه أو تتحزب له. وهذا هو العائق الرئيسي أمام تبنيه من قبل نخب سياسية فلسطينية ترى بالتفاوض خيارها الوحيد. أما القوى الفلسطينية المقاومة فتبدو شعاراتها واستراتيجيتها النضالية مخالفة تماماً لمفهوم وروح الدولة الواحدة وفكرة المواطنة الديمقراطية في دولة علمانية. ومن الواضح أنه ليس ثمة جدوى في انتظار فئات اجتماعية "إسرائيلية" كبرى لتنضم لمثل هذا الطرح. لأن الفئات الاجتماعية الكبرى لا تتنازل عن امتيازات عن طيب خاطر. إن "حل الدولة الواحدة" هو تنازل عن امتيازات اليهود، وذلك بدرجة أكبر في حالة الدولة الديمقراطية العلمانية القائمة على المواطنة، وبدرجة أقل في حالة الدولة الديمقراطية العلمانية القائمة على الاعتراف بقوميتين على شكل اتحاد فيدرالي. لا يبدو في الأفق القريب وجود تيار سياسي اجتماعي "إسرائيلي" يدفع بهذا الاتجاه في تناقض مع فكرة الدولة اليهودية. وأقصى ما نسمعه من اليسار الصهيوني هو فصل الضفة والقطاع عن "إسرائيل" في دولة، ورفض حق العودة في كافة الحالات. المشكلة أن من تبنى خيار "حل الدولة الواحدة" مؤخراً تبناه نتيجة لقناعة بفشل "حل الدولتين" على أساس حدود الرابع من يونيو/ حزيران، وليس نتيجة لتبين فرص نجاح "حل الدولة الواحدة"، وأيضاً لأنه بات واضحاً أن حل الدولتين لا يستوعب تطبيق حق العودة... لا يفرز فشلُ "حلِّ الدولتين" بحد بذاته مقومات نجاح حل "الدولة الواحدة". لا يمكن استنتاج "حل الدولة الواحدة" فورياً من فشل "حل الدولتين". وإذا قبلنا الحديث بلغة الحلول فإن "حل الدولة الواحدة" برأينا أيضاً هو الحل الأفضل والأكثر استيعاباً لمركبات الحقوق الفلسطينية ويتضمن رسالة ديمقراطية للمجتمع "الإسرائيلي". على كل حال، أهم أسباب عدم نجاح هذا النموذج المطروح حالياً هو رفض "إسرائيل" مجرد التفكير بالفكرة، وغياب أية قوة "إسرائيلية" جدية قادرة على طرح الموضوع على جدول أعمال الرأي العام، اللهم إلا بهدف تخويف الرأي العام "الإسرائيلي" من الاحتفاظ بالسيطرة الكاملة على الفلسطينيين. تطرح فكرة الدولة الواحدة في "إسرائيل" حتى الآن سلبياً، أي للتخويف بها، ولإقناع المجتمع بضرورة التخلي عن مساحات مكتظة بالسكان الفلسطينيين مثل قطاع غزة. والمشكلة أن "إسرائيل" باتت تلجأ إلى خيار "حل الدولتين" خشية من تطور واقع كهذا يدفع باتجاه "الدولة الواحدة". وما تقدمه "إسرائيل" حالياً ك "رؤيا بوش" أو ك "رؤيا شارون" هو ليس خيار "حل الدولتين" فعلاً، بل هو إثبات لفشل هذا الحل. ومع ذلك فإن النخبة السياسية الفلسطينية المتولدة عن "عملية السلام"، ومعها أنظمة عربية تريد أن "تتخلص" من هذا "الهم" تساعد "إسرائيل" على تخريجات وصناعة خطاب سياسي، بحيث يبدو ما يطرح وكأنه دولة فلسطينية في إطار "حل الدولتين"... وذلك بآليات مثل "تبادل أراضٍ"، من دون القدس، "الاعتراف بحق العودة من دون ممارسته"، وبكيان من دون سيادة كاملة يسمى دولة، وغيرها من التخريجات والتسميات التي لا ينضب لها معين. ولكن أليست هذه التسوية سلاماً حتى لو لم يكن عادلاً؟ حول هذا الموضوع في الحلقة القادمة. (3-3) تسوية صعبة وإن تحققت قد تؤدي المفاوضات المتعثرة بين السلطة الفلسطينية (تحت عنوان م ت ف) وحكومة "إسرائيل" إلى اتفاق تقوم على أساسه دولة فلسطينية. وربما تجري بينهما حالياً مفاوضات سرية مكثفة موازية غير متأثرة بردود فعل الساسة اليمينيين في "إسرائيل" أو بما يجري في الشارع العربي. ولا بدّ أن أبحاث هذه المفاوضات أكثر عمقاً مما يظهر في الإعلام. ويعتقد صناع القرار في أمريكا و"إسرائيل" أن ذلك سوف يبدو إنجازاً كافياً لتحقيق السلام في المنطقة، بعد أن يتم التوصل الى اتفاق على شروط قيام هذه الدولة التي لا تصل حدودها الى حدود 1967، ولا تشمل القدس الشرقية عاصمة وتُسْقِط حقَّ العودة. لقد جهدت "إسرائيل" والإدارة الأمريكية لتحويل مطلب الدولة الفلسطينية إلى رزمة تختزل وتصفي كل الحقوق الوطنية للفلسطينيين. ويجدر هنا التفكير بمعنى رفض ياسر عرفات مثل هذا العرض في كامب ديفيد. فهو يحمل دلالات ليس بالضرورة لجهة تمسكه بالثوابت، وإن كنا لا نستثني ذلك، بل لجهة فهمه لعدم مشروعية الحل عربياً وفلسطينياً. فهو الذي ربط مصيره الشخصي والسياسي بالمفاوضات وذلك: بعد حرب الكويت، وبعد انحسار "م ت ف" كجهاز في تونس إثر الخروج من بيروت، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبعد وصول الانتفاضة الى طرق مسدود. وهو لم يقبل هذا العرض بعد أن بات رهينة الحبس "الإسرائيلي" في المقاطعة، ودفع ثمن رفضه، وبدا أن تشييع النظام الرسمي العربي إضافة إلى جزء كبير من القيادة التي أحاطت به شمل أيضاً تنفس الصعداء للتخلص منه كعائق أمام عجلات نفس العملية التي بدأها والتي عادت تدور بعد وفاته. وقد لا يتم التوصل إلى تسوية. ولكن يجب عدم استبعاد إمكانية التوصل لورقة مبادئ حول الحل الدائم بروح ما رفضه عرفات، بحيث تصلح برنامجاً انتخابياً عند أولمرت وموضوعاً للاستفتاء عند محمود عباس. وإذا لم يتم التوصل إلى تسوية يبدو لي أن النتائج على الساحة العربية والفلسطينية سوف تكون واضحة من ناحية تقوية المحور الرافض للتسوية والمعوِّل على استمرار المقاومة، رغم أن البعض سوف يواصل "عملية السلام" لسنين طويلة. ولكن إذا تم التوصل الى تسوية من هذا النوع فإنه لا يعني أن الصراع قد وجد نهايته المحتومة. فهذه التسوية ليست "حل الدولتين" الذي يحظى ببعض الشرعية، رغم أنها ترضي قيادات عربية. فهذه تتذرع بقبول ما تقبل به القيادة الفلسطينية لأنها ترغب في التخلص من عبء قضية فلسطين. إن الكيان الناجم عن المفاوضات والذي يُعرَض وكأنه "حل الدولتين" لا يحظى بشرعية عربية على مستوى الشعوب والرأي العام والمجتمع العربي كتسوية للحساب المفتوح، وكتعويض عن الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني. قد يقال إن هذا كلام عام. ولكن الحقيقة أنه يترك قضايا ملموسة خارج الحل مثل قضية اللاجئين. وهي الأصل، وذات الوزن النوعي والمعنوي الكبير، وتتضمن معاناة فعلية لملايين البشر. كل ما تعرضه هذه التسوية على اللاجئين هو تغيير اسمهم من لاجئين الى رعايا سفارات في الخارج، أو مغتربين. كما أن "إسرائيل" لن تبقى بعد هذا الحل ساكنة في القدس، بل سوف تنكأ الجراح يومياً بالتهويد المستمر للقدس وأراضيها ومقدساتها. وسوف تتكثف يهودية "إسرائيل" وتزداد تزمتاً وصلفاً في العلاقة مع العرب المواطنين فيها، والذين سوف يُخيَّرون بعد مثل هذه التسوية بين الولاء الكامل ل "إسرائيل" إلى درجة الخدمة العسكرية وبين الحقوق المنقوصة قانونياً. أما من يصر على هويته القومية والوطنية من العرب في "إسرائيل" فقد وجدت هذه من وجهة النظر "الإسرائيلية" تعبيراً كافياً عنها في هذا الكيان الفلسطيني. وفوق كل هذا سوف يبقى التناقض قائماً بين تطوير الدولة العربية وتحديثها وتحديث جيشها، وتبقى "إسرائيل" كدولة مغتربة عن محيطها على خشيتها ورعبها من أي تطور فيه. وسوف يبقى تناقض "إسرائيل" مع الديمقراطية عربياً لأنها تخشى الأكثرية ورأيها العام وتقلباته. إذا كان هنالك ثمة سؤال عن المشروعية، فإن الشعب الفلسطيني هو القادر على أن يمنح المشروعية للتسوية إقليمياً. ولكن التسوية المطروحة تتم من خلال تحالف مع طرف فلسطيني ضد أطراف أخرى، أحدها ربح الانتخابات المحلية عندما خاضها. أما في الشتات الفلسطيني فهذا النوع من التسوية، بحكم تعريفه كإقصاء لقضية اللاجئين، لا يحظى بمشروعية. هذه التسوية ليست فقط غير شرعية فلسطينياً، بل إنها أكثر من ذلك سبب احتراب داخلي. وحتى إنضاجها قبل أن يتم التوصل إليها يجري عبر تجويع وقصف جزءٍ من الشعب الفلسطيني واستنزافه الى درجة لا يقوى فيها على الرفض. هذه ليست مؤشرات على شرعية. وإقليمياً يجري تمرير هذا النوع من التسوية من خلال هيمنة أمريكية وصراع محاور إقليمي، وسوف يحوِّل أحد المحاور عدم عدالة التسوية إلى راية في معاركه. يجري تمرير التسوية من دون أي تأثير على نفور الشارع العربي من عملية التسوية والسلام وعدم إيمانه برغبة "إسرائيل" بالسلام العادل، ورفضه للامتيازات التي تحظى بها دولياً. وإن صحت أم لم تصح افتراضات الشارع العربي، يحمل العرب مسؤولية جزء كبير مما هم فيه لهذه الحالة التي أنتجت هذه التسوية، ولتحالف الأمريكي مع "إسرائيل"، ولازدواجية المعايير دولياً. لا التسوية ولا العملية التي قادت إليها شرعية بنظرهم. ولا شك في أن حالة الاستباحة "الإسرائيلية" للشعب الفلسطيني لثنيه عن خيار المقاومة وقبول الشروط "الإسرائيلية" قد رَوَت بذور النقمة وأججت مشاعر الغبن والميل لإلصاق تهم العمالة ل "إسرائيل" وأمريكا بالضالعين في التسوية. صحيح أن العربي مغلوب على أمره في ظل الأنظمة، ولكنه لا ينظر برضى الى مشهد استمرار التآمر من أطراف عربية مع "إسرائيل" ضد نتائج انتخابات فلسطينية، وهو لا ينظر بعين الرضى الى استمرار التفاوض مع "إسرائيل" وهي تحاصر وتقصف وتقتل المدنيين في وسط العالم العربي، وهو لا يقبل موقف "الاستيطان عقبة في طريق السلام" ولا يعتبره أكثر من رفع للعتب من أجل الاستمرار بالتفاوض رغم الاستيطان، واستهانة بالرأي العام العربي من قبل دول عربية قادرة على فعل أكثر من ذلك بكثير. من هنا فإنه بعد رفض "إسرائيل" ما تعتبره أوساط عربية وفلسطينية واسعة حلولاً شرعية، فإن التوصل أو عدم التوصل الى اتفاق مع "إسرائيل" خارج إطار الحلول العادلة لا يعني إلا تبني "إسرائيل" نموذج الصراع المستديم، الذي يستمر رغم التسويات والتحالفات. في الواقع سوف يستمر الصراع بعد هذا النوع من التسوية. فهي تمثل خياراً عرفته المنطقة العربية في الماضي، هو نموذج الدول الصليبية. لقد رفضت "إسرائيل" خيار "حل الدولة" وخيار "حل الدولتين". وإن نجحت أو لم تنجح في فرض تسوية كالتي يجري التفاوض عليها سراً وعلناً، فهي اختارت بالمنظور التاريخي العيش في صراع مستديم من دون شرعية من محيطها. ونحن لن نذكر أوجه الشبه ولن نقوم بمقارنة بين سياق الصراع الحالي المعاصر وسياق الحملات الصليبية فليس هذا هو المقصود. وطبعاً السياق التاريخي مختلف تماماً. يمكننا أن نذكر أن التسويات كثرت في ظل الدولة الصليبية مع محيطها، بما في ذلك تحالفات مع أمراء ضد آخرين في مصر وبلاد الشام، ولن يكون صعباً أن نجد أمثلة شبيهة راهنة. ويمكننا أن نذكر حتى حرق كنيسة القيامة أيام جنون الحاكم بأمر الله، في باب تقديم الذرائع للحملات، ولن يكون ذكر زعامات غير متزنة شبيهة معاصرة متعسراً. ولو ذكرنا دور الإمارات الشمالية في تسهيل العبور وفتح الطريق أمام جيش الصليبيين من أنطاكية وحتى القدس، ولو ذكرنا تسخير الدين في التعبئة والتجييش وحتى في الفهم الذاتي لمنظمي الحملات ومقاوميها... حتى لو قمنا بكل هذا ووجدنا الأمثلة المقابلة في عصرنا، فسوف نجد دائماً من يجيب بحق أن النظام الدولي الحالي يختلف عن تلك الإمارات العربية والصليبية، وثبات واستقرار الدولة الحديثة العربية واليهودية يختلف جذرياً، ودور الدين اختلف، وعلاقة "إسرائيل" مع الغرب أوثق وأسرع وأكثر كثافة من علاقة الدولة الصليبية التي لم يصل خبر سقوط القدس بيد الصليبيين منها الى البابا إلا بعد وفاته، مع أنها سقطت قبل وفاته بعشرة أيام. كما يمكن لإحباط أية مقارنة الإشارة إلى الفجوة التكنولوجية والعلمية بين "إسرائيل" والعرب. وهي فجوة لم تكن قائمة بين الدول الصليبية الأربع، ومحيطها الإسلامي العربي والتركي والفارسي. ويمكن الرد على الرد بالقول إن من يراجع تلك الفترة، يدرك أيضاً أن العرب ليسوا نفس العرب من حيث الوعي الوطني والقومي والهموم المشتركة وفهمهم للاستعمار وللقضية الوطنية. ولذلك لسنا من السذاجة لإجراء مقارنات. ما يهمنا من هذا النموذج هو: دولة غريبة عن المنطقة أُنشِئَت من خلال حملات عسكرية استيطانية، ثم استقرت من دون أن تندمج بالسكان، بل من خلال بناء القلاع الحصينة والاعتماد على الفروسية، والرهان على وجود تنافر وصراع بين الكيانات السياسية القائمة على النفوذ أو على المصالح أو غيره. (ولا يهمني هنا ما يعتبره البعض هو الجوهر أي التجييش الديني، والتجييش المضاد إلا كدليل على الغربة). وهذا يعني أنه في غياب حل شرعي اختارت "إسرائيل" أن تبقى قلعة حصينة خلف جدار حديدي، تعيش على قوة الردع من جهة، وعلى الخلافات العربية العربية من جهة أخرى... وتتضمن هذه الخلافات تسويات "إسرائيلية" - عربية طبعاً، فطريق الصراع المستديم الذي اختارته الدولة الصليبية كان مرصوفاً بالتسويات. هذا ظرف مستديم. ويصح حتى الآن أنه خيار عميق الجذور في الرأي العام "الإسرائيلي"، وأنه يستند إلى عناصر قوة راهنة توفرها علاقة مشوهة وغير صحية مع الولايات المتحدة ليس لها مثيل بين الدول. ولا يبدو في الأفق قبول "إسرائيلي" لأحد الحلين: "حل الدولة الواحدة"، أو "حل الدولتين". ويفترض أن يتوقع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وضعاً لا يمكن فيه تحقيق الحقوق، ومع ذلك لا يجوز التنازل عنها، ويتوجب فيه رفض التسويات غير العادلة، ولكن إلى جانب رفض التسويات وإغلاق باب التسوية غير العادلة، يجب أن يطرح برنامج ديمقراطي ثابت للحل لليهود والعرب في إطار تصور للمنطقة العربية كلها. وهذا يعني الحياة والتطور والمحافظة على سبل العيش فلسطينياً ومقاومة الحقائق "الإسرائيلية" الجاهزة على الأرض. وهي مقاومة تنجز مكاسب جزئية ومهمة، وتمنع تحول الحالة الكولونيالية الى حالة طبيعية. ولكن التراكم على المدى البعيد هو في التحدي الإقليمي العربي ومن ضمنه الفلسطيني ل"إسرائيل"، وتحديث الدول والمجتمعات والاقتصاديات العربية، واستكمال عوامل الصمود والبناء بما فيها مهام التنمية والديمقراطية وقوة الردع. إن تمت التسوية أم لم تتم، سوف يجري كل هذا في ظل رفض عربي لقبول "إسرائيل"، جزئياً على المستوى الرسمي وكلياً على مستوى الرأي العام العربي. هذا صراع طويل يجب أن يدار بالإيقاع الصحيح. وليس الزمن فيه لصالح "إسرائيل" بل لصالح من يحسن استغلاله. هذا هو أحد أهم المغازي من الستين عاماً الفائتة. | ||
|
الثلاثاء، 18 مارس 2008
اسرائيل والخيار التاريخي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق